close
Login Form
Lawyer/Affiliate Sign Up
head

Article Content:

فارس الخوري

فارس الخوري

فارس في كل الميادين (1877-1962) 

يعتبر فارس الخوري أحد ألمع الشخصيات الأدبية والحقوقية والسياسية في سوريا. ولد في قرية "الكفير" التابعة لقضاء حاصبيا في لبنان، حيث تلقى فيها علومه الابتدائية، ثم بالمدرسة الأميركية بصيدا، ومن بعدها بالكلية الانجيلية السورية التي سميت بعد ذلك "الجامعة الأميركية" ببيروت. استقر في دمشق ترجمانا ً للقنصلية البريطانية (1902-1908)، وانتخب نائبا ً عن دمشق في مجلس "المبعوثان" العثماني سنة 1914، ثم احترف المحاماة. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى سجن بتهمة التآمر على الدولة، ثم برىء. وبعد الحرب عين أستاذا ً في معهد الحقوق، وانتخب عضوا ً في المجمع العلمي العربي (سنة 1919) فعد من مؤسسيه. وعين وزيرا ً للمالية السورية، الى أن احتل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920، فعاد الى المحاماة. ونفاه الفرنسيون الى جزيرة أرواد سنة 1925، ثم أعادوه وولوه وزارة المعارف (1926)، ولكن الوزارة حلت بعد 47 يوما ً من توليه، فأبعد مع أعضائها منفيين حتى سنة 1928. ثم انتخب رئيسا ً لمجلس النواب السوري سنة 1936، وأعيد انتخابه لهذا المنصب أكثر من مرة في عهد الرئيس شكري القوتلي (1943-1949) فرئيسا ً للوزارة (1944-1945)، كما مثل سورية لدى منظمةالأمم المتحدة مرات عدة، حيث احتل منصب رئاسة مجلس الأمن الدولي فيها. ثم توفي في دمشق سنة 1962 بعد أن ترك مؤلفات حقوقية هامة تعتبر مرجعا ً هاما ً للمحامين ورجال القانون والسياسة، منها: "أصول المحاكمات الحقوقية" و":موجز في علم المالية" و"صك الجزاء".

ان هذه الحياة الحافلة بالأحداث، التي عاشها فارس الخوري، تدفعنا الى التساؤل عن هذه الشخصية التي "لم تكن كسائر الرجال، رجلا ً واحدا ً في أمة، وانما أمة في رجل" كما كتب الدكتور حلمي اللحام.

من هذا المنطلق، يجدر بنا الاشارة الى المواقف التي سجلها فارس الخوري في تاريخه، وهي التي أكسبته، على ما يبدو، تلك الشهرة الوطنية والقومية على مختلف الصعد، نذكر من بينها على سبيل المثال المآثر التالية:

ان القليلين من الناس الذين يعلمون أن فارس الخوري كان شاعرا ً وأديبا ً كبيرا ً، الا أنه لمع في مطلع حياته كشاعر، وعلى الأخص شاعر الوطنية والقضايا العربية. وفي هذا الصدد، كتب عبد الغني العطري (في مقال له بمجلة "العربي" الكويتية سنة 1982) يقول:"... طغت السياسة على مواهب فارس الخوري التي لا تحصى فصرفته عن الشعر، فنسي الناس أنه الشاعر رقيق فحل، ذو كعب عال في دنيا القوافي، وأن انشغاله في عوالم السياسة والاقتصاد والعمل الوطني والقومي والعلمي، جعله ينصرف عن الشعر ولا يقوله الا في المناسبات... لقد كان شاعرا ً من فحول الشعر. ولو تفرغ له وأعطاه بعض وقته وعنايته لاستطاع أن يكون بين الخالدين من الشعراء". ( له في هذا الصدد ديوان شعر كبير ما زال مخطوطا ً).

كما كتب الأديب الكبير د. ظافر القاسمي يقول: "نشأت في بيت كان اسم فارس الخوري يتردد على ألسنة أهله وزواره.. واحدا ً من رواد النهضة الفكرية والسياسية في هذه البلاد... وكان لبعض أهلي عادة تدوين روائع الشعر والنثر في دفاتر جيب صغيرة. فلما شببت عن الطوق رأيت بعض ما نظم فارس الخوري في هذه الدفاتر، فعلمت شيئا ً جديدا ً هو أنه علم من أعلام الشعر".

أما الشاعر الكبير سليمان العيسى فانه يقول بأن أول قصيدة حماسية حفظها وهو طفل في التاسعة، عن أبيه، هناك في قرية النعيرية في لواء الاسكندرونة، كانت لفارس الخوري في رثاء المناضل فوزي الغزي في أواخر العشرينات، حيث يقول في مطلعها:

"ان مات فوزي فما ماتت قضيتنا    ردى المطالب لا يردى به الطلب

قد عودتنا البلايا خوض لجتها...    الى الحناجر اما غاصت لركب..."

ومن هنا يبدو أن القضية كانت هي الشغل الشاغل لهذا الرجل، حتى أن الصحفي الكبير حبيب حاماتي كتب يمدح فارس الخوري فقال له هذا الأخير: "اذا كنت تريد حقا ً أن ترضيني وتبعث السرور الى نفسي فاكتب عن القضية التي ندافع عنها لا عن الأشخاص الذين يتولون هذا الدفاع".

تميز فارس الخوري بتواضعه وجرأته وحبه للعلم والمعرفة، وكانت انسانيته مضرب المثل. وفي هذا الاطار كتب الدكتور قسطنطين زريق في مجلة "الكلية" التابعة للجامعة الأميركية شتاء 1962 ما يلي: "... ولكن وراء الحقوقي المتمكن، والزعيم الوطني ورجل الدولة القدير والعالم والوجه الدولي كان هنالك فارس الخوري الانسان. ومن صفاته الانسانية المتعددة ميزتان تركتا أعمق الأثر في نفسي أولا ً هما بساطته وتواضعه... وثم كان هنالك فضوله المتعطش أبدا ً الى الثقافة. كان يقرأ كل أنواع الكتب ولم يكن هناك موضوع لا يثير اهتمامه، وحتى آخر أيامه بقي دماغه متنبها ً للمعرفة وتواقا ً اليها..." وكذلك يقول محمد الفرحاني الذي لازمه في آخر أيامه: "بقي فارس الخوري الى آخر حياته يعد نفسه غير كبير على أن يتعلم شيئا ً جديدا ً. فكان يسعى للاستزادة من المعرفة والتحرر من الغرور والاتعاظ بعبر التاريخ والأحداث...". وقد أكد ذلك أيضا ً العلامة محمد كرد علي.

كان فارس الخوري جريئا ً في مواقفه - حتى التهور في كثير من الأحيان خصوصا ً مع قادة جمعية الاتحاد والترقي ومن بعدهم الفرنسيين -. حيث من المعروف أنه لما انتخب نائبا ً عن دمشق في مجلس المبعوثان سنة 1914، كانت معرفته باللغة التركية قليلة جدا ً، فثابر على درسها ليتمكن من العمل في المجلس المذكور. ويقول بأنه بقي الشهر الأول في هذا المجلس ملتزما ً الصمت ولا يشترك بالمناقشات، فظن الاتحاديون أنه مضمون الجانب لكونه لا يفهم تماما ً اللغة التي يتكلمون بها وعلى الأقل لكونه عاجزا ً عن الرد... لكنهم فوجئوا بعد شهر من الدرس المتواصل لهذه اللغة، فوجئوا به يقف ويحتج ويناقش ويخطب بالتركية وبطلاقة مدهشة. وصادف بعيد تلك الأثناء أن قام قادة جمعية الاتحاد والترقي بارتكاب جريمة ابادة الشعب الأرمني في نيسان 1915، وكان من بين القتلى النائبان الأرمنيان كريكور زوهراب، ووارتكس. وقد عين الاتحاديون نائبا ً بديلا ً لزوهراب في مجلس المبعوثان دون أية اشارة الى ما جرى، فما كان من فارس الخوري – كعادته - الا أن احتج طالبا ً الوضوح، وقدم طلبا ً لمعرفة اسم النائب الذي حل محله هذا النائب الجديد عن اسطنبول، وماذا جرى للنائب القديم (اي زوهراب). ووافق المجلس على الطلب. وكان على طلعت باشا أن يعطي الجواب، فتبادل وزراء الاتحاد والترقي النظرات صامتين (خصوصا ً بين طلعت باشا وأنور باشا) وليس في نيتهم ذكر اسم النائب. ووقف طلعت فالتمس امهاله في الجواب الى الأسبوع التالي. وعندما انتهت الجلسة استدعى أقطاب الحكومة فارس الخوري وسألوه: "ألا تعلم بأن النائب الجديد أتى مكان زوهراب؟"، وطلبوا منه بأن لا يحرجهم وبأن يسحب سؤاله لأنه لا يمكنهم اعلان خبر قتل زوهراب! وبما أن فارسا ً لم يشأ سحب استجوابه، فانه اضطر لأن يتغيب عن الجلسة لأنه بموجب النظام الداخلي "اذا غاب صاحب السؤال يسقط سؤاله اذا لم يتبناه عضو آخر". وقد سجلت هذه الحادثة في مذكرات فارس الخوري تحت عنوان: "فارس الخوري يحرج النواب العثمانيين". انها في الواقع شهادة حق يجب أن لا تخفى.

ومن قصص فارس الخوري في البرلمان العثماني ما رواه صديقه بديع المؤيد العظم الذي كان هو الآخر مبعوثا ً عن دمشق، حيث قال:"في أواخر العهد العثماني، قام مدير التمليك محمود أسعد بك بجولة في عواصم أوروبا، وعاد ليضع قانونا ً فيه أكثر من مخالفة جوهرية لأحكام الشريعة الاسلامية، فقامت المظاهرات في الآستانة ضد هذا القانون.وأحاطت هذه المظاهرات بمجلس المبعوثان العثماني تهاجم الحكومة وتطالب برفض القانون، فتشكلت لجنة برلمانية قوامها خمسة عشر نائبا ً لدراسة هذا القانون وتعديله برئاسة نائب دمشق محمد فوزي باشا العظم، وانتخب فارس الخوري مقررا ً لهذه اللجنة، وكان بين الأعضاء نائب "بورصة" الشيخ أحمد أفندي وهو أستاذ جليل وصاحب مهابة ووقار، اذا ما رآه وزراء السلطنة العثمانيةهرعوا اليه لتقبيل يديه والتبرك بلمس جبته... واجتمعت اللجنة ووقف فارس الخوري يتكلم ساعة من الزمن في تجريح القانون وبيان مخالفاته لأحكام الشريعة الاسلامية السمحاء والسنة النبوية المطهرة، فما كان من الشيخ أحمد أفندي الا أن هرع نحوه آخذا ً عمامته بكلتا يديه ووضعها على رأس فارس الخوري قائلا ً له بالتركية ما ترجمته: "ان هذه العمامة تليق بك أكثر مما تليق بمثلي". وكان أن ألغي القانون.

وفي هذا المجال، يكتب الأديب الكبير محمد علي الطاهر فيقول: "لولا النقطة التي توضع فوق حرف الخاء من لقب فارس الخوري لكان مقامه عند الأمة السورية كرسي رئاسة الجمهورية... يعني لو أنه كان يلقب ب - الجوري- أو ب - الحوري- لما زاحمه على سدة الرئاسة أحد، بل كانت الرئاسة تسعى اليه طائعة غير منقادة، فلو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض من تحته. ذلك أن دستور سورية ينص على ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون مسلما ً، وفارس الخوري مسيحي ولكنه عربي الأصل والقلب واللسان".

موقف آخر من المواقف الجريئة سجله فارس الخوري أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا، اذ كان في احدى المناسبات في قصر العظم، بحضور الجنرال غورو، الذي سأل الحاضرين بتهكم وكبرياء قائلا ً ما معناه: كم شهد هذا القصر  من الحكام والأحداث والسنين، خصوصا ً أنه ذو طابع تاريخي؟ فأجابه فارس الخوري على الفور: حقا ً يا حضرة الجنرال، لقد شهد هذا القصر من الحكام والأحداث والسنين كبيرها وصغيرها، كما يشهد اليوم وجودكم واحتلالكم وحلولكم فيه. ولكن اعلم أيضا ً يا حضرة الجنرال أن جميع الغزاة والمحتلين رحلوا وبقي القصر، وبقيت سوريا وشعبها، تماما ً كما سترحلون أنتم ويبقى هذا القصر شاهدا ً، كما ستبقى سوريا وشعبها. ثم ترك فارس الخوري مكانه منسحبا ً حيث لحقه أحد الحاضرين موبخا ً بعنف، قائلا ً له: كيف تتجرأ على مخاطبة الجنرال غورو بهذه اللهجة، وبهذه الطريقة؟ اعلم أنه لن تقوم لك قائمة في ظل المحتلين الفرنسيين، فرد فارس الخوري: ومن قال لك بأني أريد أن تقوم لي قائمة في ظل المحتلين الفرنسيين؟ اني أفضل الموت على الحياة الذليلة تحت حكم الاستعمار، لأن الموت بشرف هو الحياة بعينها وليس العكس.

وبالفعل، ان جوابا ً من هذا النوع، وموقفا ً مشرفا ً بهذه الجرأة، ليسا غربيين عن شخصية فارس الخوري الذي كان من واضعي أسس مملكة فيصل في سوريا، تلك المملكة التي حولها الفرنسيون بوحشيتهم واحتلالهم الى أنقاض وخراب، لأنها تحمل اسم العرب وهويتهم، كما كانت محط أنظارهم ونقطة انطلاق.

لمع فارس الخوري في القانون كعلم من أبرز أعلامه. حتى أنه عندما أثيرت قضية لواء الاسكندرونة في الثلاثينات، والمحاولات الفرنسية - التركية لسلخه عن سورية الأم، كلفت الحكومة السورية الدكتور أسد رستم "بالبحث التاريخي"، كما كلفت فارس الخوري "بالبحث الحقوقي" في هذه القضية، ونجح في ذلك نجاحا ً رائعا ً؛ وبما أن سلخ الشعوب عن أوطانها، وسلخ الأوطان عن أصلها وأهلها، لا تحتاج الى قانون، (لأنها فوق كل قانون بنظر الغاصب)، سلخ اللواء عن سوريا الأم وضم الى تركيا عام 1939، في الوقت الذي ما زال فيه "البحث الحقوقي" لفارس الخوري ساري المفعول، ويصلح لكل زمان ومكان باعتباره "البحث في الحق عن الحق"، الذي هو فوق القوة، أية قوة.

والغريب في الأمر أن فارس الخوري لم يحمل في حياته اجازة في الحقوق، ولا شهادة تخوله ممارسة المحاماة التي برع فيها أكثر من المحترفين "بشهادة".

اذ أن فارس الخوري - كما يقول حنا خباز وجورج حداد في كتابهما "فارس الخوري حياته وعصره" – "بدأ بمطالعة كتب الحقوق بدون أستاذ ولا مدرسة في أوقات الفراغ القليلة التي كانت تتركها له واجبات الوظيفة وأعماله المختلفة وعلاقاته الاجتماعية، ولم يحصل على شهادة رسمية في الحقوق، ولم يكن خريج أي معهد حقوقي. وكل ما هنالك أنه عندما كان نائبا ً في مجلس المبعوثان بعد 1914 تابع دروس الحقوق في اسطنبول ليحصل على شهادته، وكانت تستوجب دراسته ثلاث سنوات. وأوشك أن يظفر بها، غير أن السلطات التركية اعتقلته في صيف 1916 وبدأت محاكمته مع سائر أحرار العرب". (ويذكر فارس الخوري أن الأمير شكيب أرسلان كان له دور كبير في الافراج عنه وانقاذ حياته. وقد بقي حتى آخر لحظة في حياته - كما يقول - من أقرب الناس الى قلبه. وتؤكد حفيدته كوليت خوري أن فارس الخوري كان يسافر الى جنيف خصيصا ً لرؤية الأمير شكيب وقضاء بعض الوقت معه).

ويضيف حنا خباز وجورج حداد أن "هذا الحقوقي غير المأذون اشتهر كمحام وكحقوقي وكان أحد مؤسسي معهد الحقوق في دمشق، ثم أستاذا ً في المعهد المذكور، ثم أول نقيب للمحامين في دمشق، ثم عضوا ً في لجنة الحقوق الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة وعلما ً من أعلام القانون".

فضلا ً عن ذلك، كان لفارس الخوري ثلاثة مؤلفات في القانون هي: "أصول المحاكمات الحقوقية"، و"موجز في علم المالية"، و"صك الجزاء"، اضافة الى كونه أحد واضعي أسس مملكة فيصل في دمشق، وأحد واضعي أسس جامعة الدول العربية، وأحد واضعي أسس منظمة الأمم المتحدة في سان فرنسيسكو.

هذا، ومن أجمل النكات عن فارس الخوري أنه مرة وكان يضمه مع بعض رجالات الفكر والسياسة والقانون مجلس، أبدى رأيا ً قانونيا ً لم يعجب أحد الموجودين من كبار رجالات القضاء، فدار بينهما نقاش ساخن قال على أثره الأستاذ القاضي:"لو ثبت لي أن اعتراضك صحيح ووارد في الكتب، لألقيت في نهر بردى كل ما عندي من مجلدات للقانون...". فأجابه فارس الخوري على الفور في هدوء: "من الأفضل لو تقرؤها يا سيادة القاضي!"

ومثلما برع فارس الخوري في الشعر والأدب والقانون، فقد برع أيضا ً في السياسة والدفاع عن القضايا العربية، وفي طليعتها قضية فلسطين، من أعلى منبر دولي هو الأمم المتحدة. خصوصا ً أنه تقلد منصب رئيس مجلس الأمن الدولي في هيئة الأمم في الوقت الذي  كان فيه أندريه غروميكو (الاتحاد السوفياتي) الأمين العام للمنظمة. وفي ذلك الوقت أطلق على فارس الخوري لقب "شيخ السياسة العربية". ولطالما ضجت هيئة الأمم بخطبه وبمناقشاته باللغة الانكليزية من أجل نصره الحق في القضية العربية.

في هذا الصدد، كتب الدكتور حلمي اللحام سنة 1971 عن فارس الخوري هذه القصة: "... وشهدت الأستاذ (فارس) يرأس مجلس الأمن، فأشهد أنه لم يكب دون الشوط، وأنه أحرز جوائز السبق دون اجهاد. وتصورته كأنما يعتبر نفسه على قوس المجلس النيابي في الشهداء أو على منبر معهد الحقوق على كتف بردى يلقي في كل منهما دروسه الغنية، نبت الخاطر اليقظ والبديهة الحاضرة. ومن أبرز ما احتفظت به في صفحة ذاكرتي - يضيف اللحام - ذكرى جلسة اللجنة السياسية التي ترأسها المستر سباك رئيس حكومة بلجيكا الممتلىء لحما ً وشحما ً... وعنفا ً. افتتح الجلسة بدقة قوية من مطرقته، وانتظر أن يطلب أحد الحاضرين من المندوبين الكلام، ولما مضت دقائق ولم يفعل أحد، هدد برفع الجلسة وكاد يقف وينسحب. وكنت بين النظارة على مبعدة متر واحد من أستاذنا الخوري، فرأيته يخرج قلمه ويكتب على ظهر علبة لفائفه كلمات وجملا ً قصيرة، ثم يمد الورقة المنصوبة أمامه والتي تحمل اسم "سورية" طالبا ً الكلام. ولم يكد يمنحه حتى راح يتدفق بالانكليزية مدة ساعة وربع الساعة لا يتلعثم ولا يتوقف، باحثا ً عن تاريخ فلسطين ومدافعا ً عن حقوق العرب فيها، دفاع المحامي المنطقي القوي الحجة.

وكنت أسمع خطابه مترجما ً وأسمع في الوقت نفسه نبرته القوية الحنون، فتترقرق الدمعة في عيني من التأثر. وفرغ من خطابه هادئا ً كما بدأ، فجاءته المشرفة على طبع محاضر الجلسات، تسأله نسخة عن خطابه، فقلب لها علبة الدخان ضاحكا ً، ولم تكد تمس الأحرف العربية الدقيقة عينيها حتى امتلأت عجبا ً واعجابا ً...".

هذا هو فارس الخوري الذي "استحال - كرجل نابغة على حد قول علي ماهر باشا - الى كتلة دماغية، فلم يبق من جسمه أعضاء من عظم يكسوه لحم، وانما أصبح كل عضو منه مدار تفكير وبحث وعمل ونشاط"، في الوقت الذي ظل فيه دماغه في الرياضيات، يعمل كالآلة الحاسبة طوال حياته.

وعندما توفي فارس الخوري في سنة 1962، أعطته دمشق الاعتبار المقرر لرئيس الجمهورية، وأجرت مراسيم تشييعه على مستوى الرئاسة الأولى في حال الوفاة. فقد لفوا جثمانه بالعلم السوري وحملوه على مدفع ومشى وراءه رئيس الجمهورية آنذاك الدكتور ناظم القدسي (تلميذه في معهد الحقوق) والرئيس السابق شكري القوتلي (رفيقه في النضال)... ودمشق.

ولا يسعنا في نهاية هذا البحث الا أن نشير الى ما كتبه الأديب الكبير الدكتور ظافر القاسمي في هذا الرجل، فقال: "ان فارس  الخوري وليد القرون. لم يكن يشبهه أحد ممن عرفت من الرجال، وقد تمضي القرون ولا يرزق العالم العربي من يماثله أو يدانيه".

حقا ً لقد كان فارس الخوري ثروة ثمينة للعرب؛ ويا حبذا لو يعرف هؤلاء كيف يوظفون هذه الثروة والتركة، وفي الوقت المناسب والمكان المناسب، لكي يعطى هذا الرجل - على الأقل - قسطا ً من حقه الكبير على هذه الأمة التي تفخر بأن يكون فارس الخوري أحد رموزها ومناضليها وأبنائها القليلين.

الدكتور صالح زهر الدين - موسوعة رجالات من بلاد العرب

المراجع

1- "موسوعة السياسة". أسسها د. عبد الوهاب الكيالي. الجزء الرابع. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. الطبعة الأولى 1986. ص 445- 446.

2- أوراق فارس الخوري. تنسيق وتحقيق وتعليق كوليت الخوري. دار طلاس. سوريا. الطبعة الأولى 1989. (الجزء الأول).

3- مجلة "العربي " الكويتية. العدد 278. شهر كانون الثاني/يناير سنة 1982 (مقال الأستاذ عبر الغني العطري عن فارس الخوري).

4- مجلة "الاثنين" المصرية بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 1952.

5- محمد الفرحاني "فارس الخوري وأيام لا تنسى". دار الغد. بيروت 1956. ص 326و488.

6- حنا خباز ود. جورج حداد "فارس الخوري حياته وعصره". مطابع صادر ريحاني. بيروت 1952. ص 19 و24.