close
Login Form
Lawyer/Affiliate Sign Up
head

Article Content:

التعليم العالي في لبنان

التعليم العالي في لبنان مشاكل ونظرة مستقبلية نادي متخرجي الجامعة الأميركية 24 شباط 2005 لمنير بشور

هناك شيء من عدم التوازن في العنوان المعطى لحديثي هذا المساء: "مشاكل ونظرة مستقبلية". فالتوازن يفترض أن ترتفع الحلول في العنوان مثلا ً على الجانب الآخر المقابل للمشاكل، فيصبح العنوان"مشاكل وحلول"، بدل مشاكل ونظرة مستقبلية". لكن الصديق حليم فياض، عندما اقترح علي هذا العنوان، لعله رغب أن يرأف بي، فيبعدني عن برنامج تلفزيوني مشهور بهذا الاسم حيث لكل مشكلة حل، ولعله، وهذا الأهم، رغب أن لا يحملني أعباء حلول لمشاكل في التعليم لا يمكن أن تحل على الورق، أو أن تحل لوحدها بمعزل عن سواها. هذا ما يجعلني أقول منذ الآن، وفي مطلع هذا الحديث، ان كثيرا ً من المشاكل وضعت لها حلول على الورق من قبل، ولكنها لم تجد طريقها الى التنفيذ. أما أسباب ذلك فكثيرة، ولعلنا نعود الى هذا في نهاية هذا الحديث.

لهذا أشعر براحة أكثر، وأنا أتكلم أمامكم، أن أحدثكم عن المشاكل، ثم ألقي معكم نظرة سريعة على المستقبل، بدل اقتراح الحلول وتفصيلها. وبالطبع، فجميعنا مدعون الى هذه المهمة. اذا ً علينا جميعا ً الاشتراك بايجاد الحلول، بالطبع بعد التشخيص الدقيق للمشاكل، وتلمس المعالم والاتجاهات الممكنة لهذه الحلول، وأقول الممكنة، لا المرغوبة أو المثالية، وذلك تسهيلا ً لانتقال الأفكار من الورق الى الميدان. من السهل الحديث عن مثاليات كصياغة نظام جديد، أو دولة جديدة في لبنان. الحلم جميل، ولكنه يزداد جمالا ً، خاصة في المجال الذي نحن فيه، اذا ما بقي ضمن الممكن والمعقول، ولم يشطح الى البعيد أو المستحيل.

واسمحوا لي، قبل أن أدخل قلب الموضوع، أن أنوه بالانجازات الباهرة، والفريدة من نوعها التي نمت على يدي أكبر الرجال البنانين في مجال التعليم العالي في لبنان منذ نشأة هذا التعليم، وذلك بطريقة عملية واقعية قل نظيرها، أعني المغفور له الرئيس رفيق الحريري.

كنت في العام 1986 أحد المشاركين في ندوة انعقدت لمناقشة دور "مؤسسة الحريري" في لبنان، ونشرت المناقشات في مجلة كانت تصدرها المؤسسة باسم "أجيال". وقد بدأت مداخلتي آنذاك بمحاولة ايجاد امثلة مشابهة لما بدأ الحريري يقوم به من تقديم القروض للطلاب وايفادهم للدراسة في الجامعات هنا أو في الخارج، ولم أجد تجربة مماثلة سوى تجربة محمد علي باشا عندما أوفد المصريين في بعثات الى أوروبا، وكذلك تجربة اليابان اثر ثورة الميجي الاصلاحية في أواخر القرن التاسع  عشر، والتي فعلت الشيء نفسه، فأرسلت اليابانين الى أوروبا والولايات المتحدة ليعودوا بعدها الى اليابان ويقودوا حركة التطوير. لكن الفارق الكبير، كما ذكرت آنذاك في العام 1986، أن التجربتين المصرية واليابانية كانتا تجربتي دولتين - أي أنهما قامتا على أكتاف الدولة او الحكم - بينما تجربة الحريري او محاولته كانت تجربة رجل، قامت على أكتاف رجل واحد. وعندما قلت هذا في العام 1986، لم  اكن اعرف عملا ً مماثلا ً له قام على أكتاف رجل واحد. وبالرغم من مرور ما يقرب العشرين عاما ً على هذا الرأي فأنا لا أزال أجهل محاولات مشابهة في أي مكان من العالم قامت على اكتاف رجل واحد.

رحم الله رفيق الحريري واسكنه فسيح جناته. كم صحيح ومؤلم القول المشهور في هذا المجال: ان الشعوب الغبية تفعل برجالها ما تفعله الأطفال بلعبها، تحطمهم ثم تبكي طالبة غيرهم.

لو كان الحديث الذي أنا بصدده يتعلق بانجازات مؤسسة الحريري في الميدان التربوي، وخاصة على صعيد التعليم العالي، لاستفضت أكثرولقدمت لكم الشواهد والبراهين والجداول الاحصائية بأعداد الطلاب وبالاختصاصات التي أنجزوها والمراكز التي تبوأوها بعد تخرجهم، ولأشرت ايضا ً الى الاخفاقات والعثرات التي شابت هذه الجهود، الوحيدة من نوعها في التاريخ، ولكن هذا سيأخذنا بعيدا ً خارج الموضوع، ولا بد لي من العودة الى الموضوع، الى مشاكل التعليم العالي، والى النظرة المستقبلية.

سأتناول المشاكل أولا ً، وسأستعرض هذه بتقصي الجذور التاريخية لهذا التعليم، والقاء نظرة مختصرة على تطوره خلال القرن الماضي والنصف قرن، وما نتج عن هذا التطور من مشاكل، وسأركز على ما يزال بارزا ً منها حتى اليوم، قبل ان أنتقل لأقدم بعض اللأفكار السريعة باتجاه المستقبل.

بالامكان اختصار تاريخ التعليم في لبنان، ومن ضمنه التعليم العالي، بأربعة مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى، بامكاننا أن نسميها مرحلة التأسيس، أي تلك المتمثلة بانشاء الجامعتين الأميركية واليسوعية، وهذه امتدت منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، عندما تأسست الجامعة اللبنانية، أي على مدى ثمانين سنة تقريبا ً.

المرحلة الثانية، والتي بدأت مع تأسيس الجامعة اللبنانية، بامكاننا أن نسميها مرحلة التفتيش عن قواعد جديدة، أو صياغة قواعد جديدة (وطنية) للتعليم العالي - بالامكان أن نسميها مرحلة "التوطين" ان شئتم. كانت هذه المرحلة مضطربة، ولكنها كانت مليئة بالوعود. وكانت ايضا مرحلة قصيرة، امتدت لخمسة وعشرين عاما ً أو ما قارب ذلك، أي منذ مطلع الخمسينات حتى اندلاع الحرب في العام 1975.

المرحلة الثالثة، هي مرحلة الحرب، الخمسة عشر عاما ً من الدمار والفوضى والخراب والتمزق.

أما المرحلة الرابعة، فهي مرحلة ما بعد الحرب، مرحلة النهوض أو محاولة النهوض، مرحلة الاقدام والتعثر، مرحلة اعمار ما تهدم، وهدم بعض ما كان تعمر. وهذه المرحلة بدأت بعد الحرب، وما تزال مستمرة حتى اليوم.

بالعودة الى هذه المراحل، بالامكان اختصار المعالم الرئيسية التي ترسخت في كل منها، والانجازات والمشاكل التي نتجت عنها بالنقاط التالية:

اولا ً: مرحلة التاسيس. اهم ما في هذه المرحلة انها كانت شبه محتكرة من قبل جامعتين كانت كل منهما ذات جذور في الخارج: الأولى، اليسوعية، في اللغة والثقافة الفرنسية، والثانية، في اللغة الانكليزية والثقافة الأميركية. ثم ان كلا ً منهما استقطبت طلابا ً من افلاك مختلفة: على الصعيد الوطني، معظم طلاب اليسوعية كانوا من لبنان، بينما نصف طلاب الجامعة الأميركية من لبنان ونصفهم الثاني من الخارج، وعلى الصعيد الديني، معظم طلاب الأولى كانوا من الكثوليك والموارنة على وجه الخصوص، بينما طلاب الثانية كانوا موزعين مناصفة تقريبا ً بين مسيحيين ومسلمين. أما على الصعيد الاجتماعي، فكلتاهما اجتذبت معظم طلابها من الطبقات الوسطى وما فوق، مع نزر يسير من أبناء الطبقات الفقيرة.

يضاف الى ما سيق ان مرحلة التأسيس هذه لم تكن قصيرة، بل امتدت لكثر من ثلاثة ارباع القرن، كانت عملية انتاج النخب خلالها تجري بشكل قطبي، تضخ في المجتمع خريجين على نوعين من الثقافة والمشارب الاجتماعية، مما أعاق قيام نخب متجانسة، أو انه، على أقل تقدير، لم يساعد على خلق مثل هذه النخب. ان مساهمة هاتين الجامعتين على صعيد العلوم والفنون وبناء المهارات الفنية كانت هائلة بدون شك، لكن هذه كانت بطابعها العام اجنبية المصدر، كما انها لم تكن موحدة.

هذه المهمة، مهمة بناء ثقافة وطنية موحدة، كان من المفروض ان تكون الشغل الشاغل للجامعة اللبنانية التي تأسست عام 1951، وبدأت معها المرحلة الثانية. وقد شرعت هذه الجامعة في تأدية هذه المهمة، ولو بشكل متعثر، خاصة لجهة اجتذابها طلابا ً من الطبقات الوسطى وما دون، ومن جميع الطوائف، وخاصة عندما بدأت بتنظيم نفسها واستصدار القوانين في منتصف الستينات، كقانون تنظيم الجامعة رقم 75/76 وثم قانون التفرغ للأساتذة، ثم بعد ذلك بقليل افتتاح كليات ومعاهد للعلوم التطبيقية، ككلية التجارة وكلية الاعلام ثم كلية الزراعة وكلية الهندسة. وفي هذه المرحلة الثانية ذاتها قامت جامعة بيروت العربية عام 1961، وجامعة الروح القدس في الكسليك في نفس العام، كما جرت تطورات اخرى متنوعة في الجامعات الأخرى القائمة، كاليسوعية وكلية بيروت للبنات وهيغازيان وغيرها، وكانت هذه التطورات كلها باتجاه التوسع والتحسين والارتباط باحتياجات المنطقة بشكل افضل.

لكن الحرب زعزعت كل شيء. كانت الحرب زلزالا ً هائلا ً دمر الأسس والهياكل لكثير من الجامعات القائمة، وغير من طبيعتها، ودفع الى السطح بمؤسسات وبمشاكل جديدة.

وكان ما أصاب الجامعة اللبنانية من تمزق بعد صدور ما يعرف بقانون التفريع خلال الحرب عام 1977، أهم النتائج على الاطلاق، وكان التفريع قد حصل في بيروت وجبل لبنان كأمر واقع قبل صدور القانون، ولكن مع صدور القانون امتد وتوسع، وأصبح للجامعة اللبنانية 31 فرعا ً في منتصف الحرب عام 82/ 83، ثم تمادى التفريع الى أن زاد عن الأربعين فرعا ً في نهاية الحرب، وقد وصل في الوقت الحاضر الى 48 فرعا ً. ولم يقتصر التمزق على التفريع، فلعل هذا لم يكن سيئا ً كله، وانما ترافق مع نهيار المستويات التعليمية، وتحول كثير من الفروع الى استقطابات طائفية أو عشائرية أو غيرها.

ولم تقتصر آثار الحرب على الجامعة اللبنانية، وانما أصابت الجامعات الأخرى، فافتتحت الجامعة اليسوعية أحراما ً ثلاثة في المناطق خارج بيروت، في طرابلس وفي زحلة وفي صيدا، وانقسمت كلية بيروت الجامعية، التي أصبحت الجامعة اللبنانية الأميركية في ما بعد، الى حرمين، واحد في رأس بيروت والأخر في جبيل، وقامت جامعات أخرى جديدة كجامعة سيدة اللويزة، وجامعة البلمند، ثم معاهد وجامعات أخرى كثيرة ككلية الامام الوزاعي للدراسات الاسلامية، وكلية الشريعة الاسلامية، معهد طرابلس الجامعي للدراسات الاسلامية، كما بدأت بعض الجامعات العمل بدون ترخيص كمثل جامعة الجنان في طرابلس عام 1988، وبعدها جامعة المنار في طرابلس أيضا ً وهذه حصلت على ترخيص بالعمل بعد انتهاء الحرب بسنة، أي عام 1990.

وعندما وضعت الحرب أوزارها، على ما يجري القول، كانت هذه الفروع والمعاهد والجامعات قد وضعت اوزارها هي أيضا ً، فظهرت في السنوات الأولى بعد الحرب جامعات ومعاهد جديدة كالجامعة الاسلامية في بيروت - منطقة خلدة، وجامعة الحكمة، ثم الجامعة الأنطونية، وكانت لهاتين الأخيرتين جذور قديمة قبل أن تتحولا الى جامعتين. يضاف الى هذا ظهور نوع جديد من المعاهد والمؤسسات هو النوع التجاري الذي ما لبث ان ضرب في ساحة التعليم العالي كما تضرب النار في الهشيم: معهد الأميركان يونفرستي للعلوم والتكنولوجيا والذي اكتسب صفة الجامعة فيما بعد باسم AUST ، معهد الادارة والكومبيوتر الجامعي هواي، المعهد العالي والدولي لادارة الأعمال، المعهد الجامعي للادارة والعلوم، معهد المتن الجامعي للتكنولوجيا...الخ، ثم الجامعة اللبنانية الدولية في البقاع، والجامعة العربية المفتوحة. كل هذه وكثير غيرها كانت من النوع الجديد، لم تكن كسابقاتها تدور في أفلاك الطوائف أو المذاهب الدينية وانما في فلك المال والتجارة. ونقول هنا بسرعة، على أن نعود الى هذا الأمر فيما بعد، ان الهدف التجاري من وراء قيام هذه المعاهد والمؤسسات لم يشكل بحد ذاته وجه الخطر الحقيقي على التعليم العالي، فهذا بحد ذاته ليس الخطر، بل لعله وفر بعض المنافع والحسنات التي لم تكن متوفرة من قبل، وانما كمن خطرها الحقيقي في الاستغلال التجاري، أي أن الخطر كان في الاستغلال وليس في التجارة، بما يحمله الاستغلال من غش وتزوير وتبخيس للمستويات وهدر للفرص والامكانات، والتي كان لا بد أن يمتد شيء منها الى المؤسسات الأخرى القديمة والعريقة التي وجدت نفسها مضطرة الى دخول باب المنافسة من قبيل الدفاع عن النفس، فكان لهذا أثر سلبي عليها وعلى مستوياتها، كان من الصعب عليها أو على بعض منها تجنبه.

قبل أن نتبع، دعوني أعطيكم صورة احصائية تلخص تطور الأوضاع، وسأفعل ذلك باستعراض الأوضاع عبر ثلاث محطات تاريخية:

الأولى عام 73/ 74، أي قبل الحرب بسنتين، والثانية، وبعد عشرين سنة عام 93/ 94، أي بعد انتهاء الحرب بثلاث أو أربع سنوات، والثالثة، بعد ذلك بعشر سنوات، أي في العام السابق للعام الذي نحن فيه، وهو العام 2003/2004:

1) بلغ مجموع الطلاب في المحطة الأولى، اي في العام 73/74، حوالى ال 52 ألفا ً، وارتفع الى 75 ألفا ً بعد عشرين سنة في العام 93/ 94، ثم الى 133 ألفا ً بعد عشر سنوات، أي في العام 2003/ 2004، بما يعني معدل ازدياد بلغ 44% في السنوات العشرين الولى، و77% في السنوات العشر الأخيرة.

2) كان نصيب االجامعة اللبنانية من هذا المجموع في المحطة الولى، اي عام 73/ 74 31%، ثم أصبح بعد عشرين سنة 49%، ووصل في العام 2003/ 2004، أي بعد عشر سنوات، الى 45%، أي نصف مجموع عدد الطلاب العالي أو أكثر بقليل.

3) في العام 73/74 كان 43%، أي أقل من نصف الطلاب في التعليم العالي في لبنان، لبنانيين، والباقون كانوا غير لبنانيين، معظمهم من البلدان العربية الأخرى التحقوا بجامعة بيروت العربية وكذلك بالجامعتين الأميريكيتين. ثم بعدج عشرين عاما ً أي في العام 93/ 94 ارتفعت نسبة اللبنانين الى 77% ثم بعد عشرين عاما ً أي في العام 93/ 94 ارتفعت نسبة اللبنانيين الى 77% ثم بعد عشر سنوات، الى 90% في العام 03/ 04، أي ان عشرة بالمئة فقط من المجموع الهائل اليوم هم عرب غير لبنانيين بينما كان هؤلاء قبل الحرب أكثر من نصف المجموع.

4) ثم أخيرا ً، كانت سبع جامعات في العام 73/74 تضم 96% من مجموع الطلاب، وال 4% الباقون كانوا موزعين بين معاهد وجامعات مختلفة. وبعد عشرين سنة انخفض نصيب الجامعات السبع من 96% الى 92%، ثم انخفض هذا النصيب مرة ثانية بعد عشر سنوات ولكن هذه المرة انخفاضا ً كبيرا ً وصل في العام السابق، أي 2003/ 2004، الى 78% من المجموع فقط.

وهكذا، فان صورة توزيع الطلاب في الوقت الحاضر تبدو كما يلي:

حوالى نصفهم في الجامعة اللبنانية،
حوالى ربعهم في الجامعات السبع التي نشأت قبل الحرب ومن بينها الجامعتان القديمتان الأميركية واليسوعية،

أما الربع المتبقي فهو في معاهد وجامعات نشأت بعد الحرب، معظمها تأسس في السنوات العشر الأخيرة.

أرجو أن لا ترهقكم الأرقام والاحصائيات، فبالطبع هي لا تفسر كل شيء وانما هي كميزان الحرارة يعطي، كما أتصور، مؤشرات عامة عن صحة الجسد. دعوني أضيف فقرتين أو ثلاثا ً أخرى من النوع الاحصائي متعلقة، هذه المرة، بالجامعة اللبنانية، التي تضم اليوم حوالي نصف مجموع الطلاب:

بعد التفريغ، وفي منتصف سنوات الحرب، أي في العام 82/83 ضمت الفروع الواقعة في مدينة بيروت وجبل لبنان 73% من مجموع طلاب الجامعة اللبنانية و27% موزعة على فروع المحافظات الثلاث الأخرى، أي الشمال والجنوب والبقاع بعد عشر سنوات أو أقل، أي في العام 93/94 انخفض نصيب بيروت وجبل لبنان من 73% الى 64%، وارتفع نصيب المحافظات الثلاث الى 36%، وثم بعد عشر سنوات أخرى، أي في العام 93/94، انخفض نصيب بيروت وجبل لبنان مرة اخرى الى 55% ليرتفع نصيب المحافظات الثلاث الى ما تبقى من المجموع أي الى 45%.

اذ استنتجنا من خلال هذه الاحصاءات أن زلزالا ً ضرب التعليم العالي في السنوات الأخيرة فلن نكون على خطأ. واذا قلنا ان الصاعق في هذا الزلزال او شرارته كانت الحرب، فكذلك لن نكون على خطأ. واذا قلنا ان بؤرة هذا الزلزال او النقطة المركزية التي اصابها بالتدمير في الجامعة اللبنانية، وان ما أصاب هذه الجامعة كان أكثر بكثير مما أصاب غيرها، فلن نكون على خطأ للمرة الثالثة.

وكما قلت، فان الاحصاءات لا تكشف كل الحقائق، ولكنها تشي بصحة الجسد، وهذه الحقائق كثيرة، واختصارا ً للوقت سأستعرضها أمامكم تحت عنوان المشاكل، وسألخص هذه بالنقاط التالية:

1) تفكك بنية هذا على التعليم العالي الى قطع متناثرة بالكاد يجمع بينهما جامع الا بالصدفة. ينطبق هذا على التعليم العالي بمجمله، كما ينطبق على الجامعة اللبنانية بشكل خاص، ولا بد من النظر الى هذه الجامعة، ولو من ناحية الآمال المتعلقة بها، كالجامعة الأم، أو جامعة المحور.

2) تستقطب هذه القطع المتناثرة في معظم الحالات، وليس فيها كلها، أنواعا ً من الطلاب من ألوان واحدة، ويخضع أكثرها الى التجاذبات والمصالح الشخصية والفئوية بدل خضوعها الى المصلحة العامة. وينطبق هذا، على وجه الخصوص، على الجامعة اللبنانية بفروعها المختلفة، كما ينطبق على هيكليتها المركزية. ويزيد من هذا التفسخ والاسترهان خضوع هذه الهيكلية المركزية الى حبائك اللعبة السياسية حيث يتم التعامل مع الجامعة كملحق أو تابع اداري من دوائر الدولة دون اهتمام بالدعوات الكثيرة الى احترام حقها القانوني في الاستقلال وفي الحكم الذاتي.

3) ترافق التمزق والاندثار العام مع تكاثر الأنواع من المؤسسات والمعاهد بأشكال مختلفة، وقد ازداد هذا التكاثر بشكل ملفت في السنوات العشر الأخيرة كما قلت، وخاصة لأغراض الربح التجاري.

4) كان من نتيجة كل ما سبق أمران أساسيان يشكلان عصب المشاكل كلها وهما:

أ- انخفاض المستوى التعليمي ودخول الفوضى الى معايير الجودة، وضياع المقاييس والموازين في خضم الفوضى،
ب- الفوضى أيضا ً في تطوير ثقافة وطنية، وانتاج ثقافة هجينة بدلا ً عنها، وخيبة الآمال التي كانت معلقة على الجامعة اللبنانية بأن تصبح محور انتاج مثل هذه الثقافة الوطنية.

فبالمقابل، للثقافة التي سميناها من قبل قطبية أو ثنائية، والتي نشأت في رحاب الجامعتين الأجنبيتين الأميركية واليسوعية في مرحلة التأسيس، فان ما حصل الآن، وفي سنوات ما بعد الحرب، هو انتاج ما نسميه هنا خليطا ً ثقافيا ً، يزيد من مخاطره ويفاقمها الانخفاض في المستوى الذي أشرنا اليه من جهة، ثم انجراره وراء ما يمكن تسميته اختصارا ً قوى العولمة وخضوعه لمغرياتها وآلياتها، بما في ذلك اغراء الربح التجاري السريع.

هذا ما يبدو لنا من مشاكل عانى منها التعليم العالي وما يزال. فهل كانت هناك محاولات لايجاد الحلول؟

الجواب نعم، كانت هناك بعض المحاولات القليلة لايجاد الحلول، وكانت هناك افكار كثيرة حولها، متعلقة بها أو بغيرها:

نبدأ بالتسلسل التاريخي، ونحصر اهتمامنا بالسنوات الخمس الأخيرة، فنشير الى كتاب صدر عام 1999 عن مجموعة من خمسة أساتذة في الجامعة اللبنانية، بعنوان "قضايا الجامعة اللبنانية واصلاحها"، وقد أقدمت هذه المجموعة على هذا العمل بدافع شخصي وبدون تكليف من أحد. كان هذا الكتاب نتاج اجتماعات ومداولات كثيرة نظرت في المشاكل التي تعاني منها الجامعة من أوجه مختلفة في أحد عشر فصلا ً، ثم انتهت الى فصلين، قدمت في الأول منهما مبادىء الاصلاح، وفي الثاني التوصيات والاقتراحات، وقد بلغ عدد هذه سبعا وثمانين توصية مع تفصيلاتها. ليس بالامكان مراجعة الكتاب بكامله أو التوصيات التي قدمها هنا، ونكتفي بالقول انه في ما تضمن من تشخيص للمشاكل، ومن توصيات بحلول، يوازي أفضل ما أعرف من الكتب والتقارير التي تصدر عن مجموعات أو مؤسسات في بلاد العرب. ولكن الكتاب أهمل، بل هوجم خاصة أنه وضع من قبل أساتذة من الجامعة نفسها وبدافع شخصي منهم، وبشكل مستقل. من بين التوصيات السبع والثمانين نشير الى التوصية رقم 2 التي تدعو الى صدور قانون أساسي جديد لتطوير الجامعة وتعزيز استقلالها، وكذلك الى التوصية رقم 4 والتي تقول بتجميع الجامعة في خمسة مجمعات لانقاذها من التشتت، ثلاثة منها في المحافظات خارج بيروت، واثنان في بيروت وجبل لبنان.

كان صدور هذا الكتاب في العام 1999. بعد ذلك بسنتين، أي في العام 2001، صدر قرار عن مجلس الوزراء بدمج فروع الجامعة اللبنانية الموجودة في بيروت وجبل لبنان. وسرعان ما أثار هذا القرار عاصفة من الردود جاء أكثرها معترضا ً، فقدم آخرون أفكارا ً واقتراحات بديلة كان من بينها، على سبيل المثال، اقتراح لوزير الثقافة السابق غسان سلامة، بانشاء جامعات مستقلة في كل من البقاع والشمال والجنوب، وانشاء ثلاث جامعات أخرى في العاصمة وضواحيها، واحدة للعلوم وأخرى للحقوق والعلوم الانسانية وثالثة للتكنولوجيا، على أن تتحول رئاسة الجامعة الى جهاز تنسيق بين الجامعات الرسمية الست التي ستستفيد من المنافسة العلمية (النهار 29/5/2001).

وفي ذلك العام أيضا ً، أي في العام 2004، صدر عن الجامعة اللبنانية تقرير ضخم، بناء على تكليف رسمي من رئاسة الجامعة هذه المرة، بعنوان "التقييم الذاتي في الجامعة اللبنانية". كان هذا التقرير خلاصة عمل 27 لجنة، 16 منها كانت لجان كليات و10 لجان مركزية، تنسق فيما بينها كلها لجنة عليا. تناولت هذه اللجان جميع قضايا الجامعة وشؤونها، واستعانت الى ذلك باستفتاءات ميدانية ومقابلات شخصية أجريت بمقتضى دليل وضع من أجل ذلك. وقد قدم التقرير ونوقش علنا ً، ونشر ملخص عنه بعنوان:"التقرير التوليفي"، وهو تقرير جدير بالقراءة والتفحص عدة مرات. أما عن نتائجه العملية وتأثيره على مجريات الأمور، فلم يظهر منها شيء حتى الان.

نبقى في اطار الأفكار والمحاولات التي قامت في اطار الدولة او عن طريق مؤسسات رسمية، ونشير هنا الى أمرين آخرين مهمين:

الأول، عقدت حلقات نقاش دعت اليها لجنة التربية في المجلس النيابي لمناقشة مسودة مشروع قانون جديد للتعليم العالي بدلا ً من القانون الحالي الموضوع عام 1961، وكان ذلك عام 2001، واستمرت المناقشات حتى صدرت مسودة للمشروع عام 2003. ولكن حتى هذه الساعة لم يصدر قانون جديد للتعليم العالي، وما زال قانون العام 1961 هو المعمول به. ولعل أهم ما في مسودة المشروع الجديد اقتراح بانشاء "هيئة مستقلة لمراقبة وضمان الجودة في التعليم العالي"، ولكن، كما قلت، لم يصدر القانون الجديد حتى الان.

ما حدث، وهذا هو الأمر الثاني، ولعله كان مرتبطا ً بمناقشات لجنة التربية في المجلس النيابي أو ناتجا ً عنها، أنه خلال تولي المهندس سمير الجسر شؤون وزارة التربية، عقدت ورشات عمل ومداولات لوضع صيغة لهيئة تتولى مراقبة الجودة وضمانها. كان ذلك منذ عام ونصف تقريبا ً، لكن أعمال هذه الورشات وما نتج عنها طويت مع استقالة الوزير الجسر ليحل محله الوزير منقارة.

لعل الشيء الوحيد الجديد الذي نتج عن هذا الأمر، على الصعيد العملي، كان أن الوزارة اخذت تصدر ما يمكن تسميته بالقائمة السوداء للمعاهد والمؤسسات غير المرخصة وتنشر اسماءها في الصحف، وتنبه أن الشهادات التي تصدر عنها غير معترف بها. وهذه الاجراءات كانت بالطبع افضل من لا شيء، علما ً أن المستندات القانونية لاصدار مثل هذه التحذيرات موجودة في القانون القديم لعام 1961 وتعديلاته. لكنها، بالرغم من ذلك، لم تكن لتلامس او تقترب من ملامسة جوهر المشاكل التي عانى منها التعليم العالي، خاصة منذ ما بعد سنوات الحرب. فعلى سبيل المثال، لم يتم اي اجراء للنظر فيما اذا كانت المؤسسات الحاصلة على الترخيص، كانت تقوم بما هو مفترض بها أن تقوم به، أو تحافظ على الشروط والمواصفات المطلوبة في القانون القديم، أي قانون العام 1961، الذي أعطيت بموجبه الترخيص. أما بالنسبة للجامعة اللبنانية، فبالطبع أن مسائل الترخيص لم تكن لتمسها مطلقا ً.

كل ما ذكرناه كان محاولات أو أفكارا ً على الصعيد الرسمي، ولا بد أن نذكر محاولات على الصعيد الخاص، أو في القطاع الخاص، وأهمها على الاطلاق هو ما قامت به الجامعة الأميركية في بيروت على مدى ثلاثة أعوام، بدءا ً من العام 2001، للحصول على براءة الاعتماد من الولايات المتحدة الأميركية. لقد اقتضى العمل للحصول على هذه البراءة تشكيل لجان مختلفة قدمت تقارير واوراق عمل مختلفة، وعقدت مناقشات واستشارات مستفيضة، ونتج عن كل ذلك في آخر المطاف تقرير ضخم ضم النتائج والتوصيات للتحسين في المستقبل. ولا يخفى علينا بالطبع الأمر البديهي، أن الاعتماد عندما منح، في ناهية الأمر، منح من قبل مؤسسة ليست وطنية، وأنه كان مطلوبا ً من الجامعة، لكي تحصل على الاعتماد، أن تسترشد بالمعايير الموضوعة من قبل هذه المؤسسة، وأن تسير في هدي توجيهاتها وارشاداتها.

ماذا عن النظرة المستقبلية؟ ما الذي يمكن أن يحدث؟

اذا أخذنا هذا السؤال بمعنى التنبؤ واستشراف المستقبل، فيمكننا الدخول فيما يسمى سيناريوات، فتتحدث عن سيناريو الخط الأدنى او السيناريو المتشائم، ثم سيناريو الخط الوسط المعتدل، وثم الخط العالي او المتفائل.

دخولنا في هذا يأخذنا في شعاب كثيرة، ولعلي أحصر أفكاري بالخط العالي، أي بالمتفائل، مما يقلب السؤال، في حقيقة الأمر، من ماذا يمكن أن يحدث، الى ما الذي يجب أن يحدث؟ هذا سهل، أو أسهل من الحديث عما يمكن أن يحدث، اذ يفتح الشهية على كلام كثير، وعلى لائحة من الموجبات أو الانبغاءات التي تطول كثيرا ً. واسمحوا لي أن أحصر أفكاري في نقطتين أساسيتين، الأولى متعلقة بدور الدولة، والثانية متعلقة بما يمكن عمله، وما يجب، بحضور الدولة أو بغيابها:

النقطة الولى، عن الدولة. نعم، الحق على الدولة، هذا القول صحيح من الناحية النظرية، ولكنه لا يوصل الى شيء. الحق على الدولة في التعليم العالي كما عليها في التعليم ما قبل العالي، وفي التعليم كما في غير التعليم، من تنظيم السير في الشوارع، الى تأمين الكهرباء، الى حماية البيئة، الى مسائل الاقتصاد والدفاع الوطني ومحاربة الفساد وغير هذا كثير، خاصة وأن هناك في الأدراج أفكارا ً واقتراحات كثيرة حافلة بالمشاريع والخطط والحلول الجيدة، كما أشرنا، لمثل هذه المشاكل كما لغيرها، لكنها كلها بحاجة الى تطبيق. لكن، لماذا لا يحدث التطبيق؟ هذا سؤال آخر كبير جدا ً، لا أعرف الجواب الأكيد عليه، ولكنني أخاف أن أركن اليه كعذر يريحني ويرفع عني أعباء المسؤولية.

لماذا يصعب التطبيق، وأحيانا ً يستحيل؟ هل التطبيق خط مستقيم أم متعرج؟ أحيانا ً هذا وأحيانا ً ذاك. هل تكفي النوايا الحسنة، أم أن الحاجة هي الى الارادة الصلبة؟ هل تكفي المعرفة، أم أن الحاجة هي الى المهارة في التطبيق؟ هل تكفي الأموال والوسائل المادية، أم الحاجة الى استخدامها بفعالية وفي حدود فترات زمنية محددة؟ كل هذا وذاك صحيح، ولكن في كيفيات وايقاعات ومقادير متفاوتة ومتنوعة، تختلف من حالة الى أخرى. الحق على الدولة صحيح. ولكن في كيفيات وايقاعات ومقادير متفاوتة ومتنوعة، تختلف من حالة الى أخرى. الحق على الدولة صحيح. ولكن أحيانا ً كثيرة الدولة تفعل كل شيء تقريبا ً، ولا تترك للآخرين شيئا ً ليفعلوه، كما يحدث في بلدان عربية أخرى كثيرة. في هذه الحال لعلنا لا نحتاج للدولة: نحتاج لدولة أقل، وشعب أكثر.

الموضوع كبير جدا ً، وسأقف عند هذا الحد من التساؤل والكلام عليه. لكن هناك فكرة واحدة صغيرة متعلقة به سأذكرها وأمر عليها مرور الهاربين:

الاستمرارية في الحكم تساعد كثيرا ً. كيف نؤمن أن تستمر الأفكار والمشاريع من وزير الى آخر، أو من عهد الى آخر؟ باعطاء مدير عام الوزارة أو أمينها العام مثلا ً مهمات أكبر، باعتباره شخصا ً ثابتا ً في مركزه بينما الوزير يغادر مركزه مع تغيير الوزارة آخذا ً مستشاريه معه؟ مثلا ً، هذه فكرة وأتوقف على حدودها.

النقطة الثانية: هذه لا علاقة لها بالدولة، وانما بالمؤسسات وبالقائمين عليها، وهي تنطلق من السؤال التالي: ما الذي يجعل مؤسسات التعليم (العالي وغير العالي) عندما تريد أن تتعاون مع غيرها تنظر الى خارج البلاد ولا تنظر الى داخلها؟ نقرأ باستمرار عن أن هذا المعهد أو هذه الجامعة أقامت علاقة تعاون أو توأمة مع مؤسسة في فرنسا، أو في أميركا أو استراليا أو كندا، ولا نسمع من علاقة تقوم بين مؤسستين تقعان في منطقة واحدة، حتى ولو كانت هاتان المؤسستان من نوع واحد. حتى الجامعات الأميركية في لبنان لا تتعاون فيما بينها، ولا الكاثوليكية ولا غيرها. ما أصدق كلام غبطة البطريرك صفير هنا في كلمته الافتتاحية التي ألقاها في المؤتمر الثاني عشر للمدارس الكاثوليكية المنعقد منذ اسابيع قليلة حين قال: "قد يقوم بين الجامعات الكاثوليكية و الجامعات خارج لبنان توأمة أو ما يشبهها، ولكننا لم نسمع أنه قام تعاون بين الجامعات الكاثوليكية  في لبنان..." "... ان كل جامعة تسعى يقول البطريرك صفير "الى ابراز ما لها من شخصية دون أن تلتفت الى ما سواها من جامعات في لبنان... الكاثوليكية على الأقل" (النهار 1/9/ 2004).

كلنا يعرف الأسباب:" الفرنجي برنجي. سينييه! العين القريبة ميتها ما بتشبع". لكن كل من يراجع تاريخ الشعوب المتقدمة وكيف تقدمت، ويطلع على ما تفعله هذه الشعوب بعد أن تقدمت، يكتشف كم أن عمل الجماعات بعضها مع بعض هو الحافر، كما أنه هو الضامن للتقدم. المزاحمة وشوفة الحال، نعم، ولكن في نطاق الجماعة. يد الله مع الجماعة، أو أن الجماعة تتهاوى، فردا ً فردا ً، فاما أن نهاجر، أو نسقط في التناحر على ما يتبقى من فتات.

هذه ليست برنامجا ً للعمل في المستقبل، وانما لمحات أو اشارات من الضوء باتجاه آفاقه، لا تغطي هذه الآفاق، وانما تشير اليها بلمحتين أو ببارقتين لا بد أن يضاف اليهما الكثير.